by OMAR HAJ
Artwork: عمر وميسم
Copyright © 2025

:الفصل الاول
في زقاق ضيق متشابك من أزقة يافا القديمة، حيث تختلط رائحة البحر برائحة الخبز الطازج، كان عمر يمشي بخطوات سريعة ومضطربة.
كان وجهه الوسيم مغطى بلحية خفيفة، وعيناه الدبلانيتان تتجولان بين المارة والحوائط القديمة.
كان عمر شابًا في العشرين من عمره، متوسط الطول، متدين، ينتمي إلى عائلة مقتدرة، يدرس هندسة الكهرباء.
لكنه رغم ذلك، كان يكره التفكير الزائد، يحب العيش بكل لحظة، ولا يرغب في أن يضيع الوقت في حسابات لا تنتهي.
وقف فجأة أمام مكتبة صغيرة زجاجها مغطى بغبار الأمس، وعلامات كتب قديمة.
سمع صوت خطوات خلفه.
“هلا!”
كانت صوتها ناعمًا لكنه حاد قليلاً، كأنه سؤال. التفت ليجد ميسم واقفة خلفه، شعرها الطويل الأسود يتدلى على كتفيها، وعيونها الخضراء تلمع بفضول.
ابتسم عمر وقال:
“بس عم بتفرج على الكتب… وحبيت أشوف شو عندكم.”
ميسم:
“ليش ما تدخل؟ الكتب أصدقاء جيدين.”
دخل الاثنان إلى داخل المكتبة، التي كانت صغيرة ودافئة، والكتب تتكدس على الرفوف حتى السقف.
عمر مد يده وأخذ كتابًا بعنوان:
“بين الحياة والأفكار”.
قال مبتسمًا:
“عنوان حلو… بعرفك تحبِّي الأفكار؟”
ميسم نظرت إليه بتركيز، وردت:
“أنا… أعيش بين الأفكار، وأحيانًا الأفكار تسرق مني الحياة.”
ضحك عمر وقال:
“وأنا العكس، أعيش الحياة وأحاول ما أغرق بأفكاري.”
ميسم:
“يمكن الحياة بدون فكرة مثل جسم بلا روح.”
عمر:
“والفكرة بدون حياة؟ متى رح تعيش؟”
وقفت لحظة، وقالت بنبرة خافتة:
“أنا دايمًا بتخاف أعيش، بتخاف أخطئ.”
نظر إليها بجدية:
“بس الغلط جزء من الحياة.”
ميسم:
“والأفكار بتخلي الواحد يحسب غلطاته قبل ما يعملها.”
ابتسم عمر وقال:
“أعتقد إنو لازم نجرب نعيش، حتى لو خطينا.”
ميسم:
“يمكن… بس عشان كده، أنا هون… في الكتب.”
:الفصل الثاني
بعد يوم من لقائهما في المكتبة، وجد عمر نفسه يتجول على رصيف يافا القديم، حيث تصطدم الأمواج بالصخور وتُسمع أصوات البحر الخافتة مع نسمات المساء الباردة.
كان يحمل بيده كوب قهوة، وعقله مشغول بالكلمات التي قالتها ميسم.
فجأة، رأى ظلًا يقف قرب المقهى الصغير. كانت ميسم، ترتدي معطفًا رماديًا، وعيونها الخضراء تلمع في ضوء الفوانيس.
اقترب عمر وقال بابتسامة:
“ما توقعت أشوفك هون.”
ميسم:
“أنا بحب البحر… هدوءه يخلي أفكاري تتجمع.”
جلسا على الطاولة، وبينهما كأسان من الشاي الأخضر.
عمر:
“ليش بتحبي التفكير كثير؟”
ميسم:
“لأني عشت أوقات كتير كنت ضايعة، وأفكاري كانت الدليل اللي خلاني أرجع.”
عمر وهو ينظر لها:
“أنا بحس أحيانًا إنو الوقت بيمشي بسرعة وما بعرف وين رايح.”
ميسم بابتسامة:
“يمكن لأنك ما وقفت تفكر وين عم تروح.”
سكتا للحظة، وصمت البحر كان يسمع بينهما.
عمر:
“إنتِ بتقولي إنو لازم نوقف؟”
ميسم:
“مو بس نوقف، لازم نفهم. الحياة مش بس خطوة لقدام، لازم نعرف ليش وخلال شو.”
عمر بابتسامة طفولية:
“أنا أحيانًا بحس إنو أفكارك مثل بحر ثاني جوا راسي.”
ميسم بابتسامة أعمق:
“وأنا بحس إنك موجة ما بتسمح لي أرتاح.”
ضحك عمر وقال:
“يمكن هيك الحياة والفكرة، دايمًا بتتقاتل، بس كمان ما بيفرقوا عن بعض.”
ميسم:
“صح، ما في حياة بدون فكرة، وما في فكرة بدون حياة.”
⸻
كانت تلك الجلسة بداية لفهم جديد بينهما، صداقة تتشكل بخطوات بسيطة على رصيف البحر، حيث يلتقي الواقع بالأحلام.
:الفصل الثالث
بعد أسابيع من اللقاءات والحديث، بدأ عمر يشعر بقلق داخلي لم يفهم مصدره.
كان يرى في عيون ميسم عمقًا غامضًا، كأنها تخبئ شيئًا لا تريد أن تبوح به.
جلسا في مقهى صغير على زاوية شارع يافا، تشع منه أنوار خافتة وأصوات خفية من الأزقة المجاورة.
عمر قال وهو يحاول كسر الصمت:
“ميسم… في شي مضايقك؟ بتحس إنك مش مرتاحة لما تكون معي؟”
ميسم نظرت له ببطء، تنفّست عميقًا وقالت:
“أنا… مرات بحس إنو أفكاري بتخنقني. مش بس معك، مع الكل. مرات بفكر إنه أهرب.”
عمر ابتسم بحنان، لكنه شعر أن هناك أكثر مما تقول.
سألها:
“إذا في شي من الماضي عم يوجعك، ليش ما تحكي؟ ما لازم تتحملي كل شي لوحدك.”
ميسم هزّت رأسها بحزن:
“تجارب قديمة، عيلة معقدة… وما بحب أثقل عليك بحكاياتي.”
عمر قبض يده على الكوب بقوة، وقال:
“أنا مش بس حياة عابرة، أنا هون لأجلك.”
ميسم ابتسمت بمرارة:
“بس الأفكار مرات بتخاف إنها تتعلق، لأنها ممكن تترك فجأة.”
سألها عمر بحيرة:
“ليش تخافي من الالتزام؟”
ميسم أجابت:
“لأن الالتزام يعني استسلام. وأنا ما بدي أستسلم.”
كان الصراع واضحًا:
عمر يريد أن يقرب ويشارك، وميسم تخشى أن تفقد حريتها في الفكر والانعزال.
⸻
بعد فترة صمت، قالت ميسم بهدوء:
“يمكن هالشي هو السبب اللي بيخليني أختفي أحيانًا… مش عشان أهرب منك، بس عشان ألاقي نفسي.”
عمر قال بثقة:
“وأنا رح أضل معك، حتى لو اختفيت.”
:الفصل الرابع
كان مساء خريفي، وغيوم ثقيلة تغطي سماء يافا.
الهواء مشبع برائحة المطر القادم، والناس يسرعون إلى بيوتهم…
أما عمر، فكان واقفًا تحت مصباح شارع قديم قرب رصيف البحر، ينتظر.
مرّ نصف ساعة… وميسم ما أجت.
لأول مرة، ما بعتت ولا رسالة.
أخرج هاتفه، فتح محادثته معها…
آخر رسالة منها كانت:
“بحكي معك بكرا… في شي لازم أواجهه.”
تقلّب قلبه.
هل انسحبت؟
هل هربت كما كانت تلمّح؟
أم أن هناك شيئًا آخر لا يعرفه بعد؟
قرر يمشي…
وفي طريقه، لمح زحمة صغيرة عند نهاية الزقاق، ناس متجمعة حوالين سيارة إسعاف واقفة عند مدخل عمارة.
اقترب…
ما كان بده يصدق… لكن من بين الوجوه، لمح غطاء رمادي مألوف.
معطف ميسم.
⸻
ركض عمر وهو يصرخ:
“ميسم؟! شو صار؟!”
صبية قالت وهي تمسك بكتفه:
“ما في شي كبير، بس كانت ماشية وتعبت فجأة… فقدت وعيها.”
أخدوها على المشفى، وعمر ظل واقف على باب الطوارئ، قلبه عم يضرب، عيونه مش مصدقات.
بعد ساعة، طلع الطبيب:
“هي بخير، ضغطها نزل… بس لازم ترتاح، واضح إنها مرهقة جدًا.”
دخل عمر الغرفة…
كانت ممددة، شاحبة، وعيونها مفتوحة بالكاد.
ابتسمت له وقالت بصوت ضعيف:
“مش دايمًا الفكرة قوية… مرات بتنهار.”
اقترب منها، أمسك يدها وقال:
“الحياة كمان… بتوجع، بتوقع، بس ما بتهرب من اللي بتحبه.”
ميسم همست وهي تغمض عينيها:
“ما توقعت تيجي.”
قال وهو يبتسم:
“أنا مش رايح لمكان… حتى لو اختفيتي، رح أرجع ألاقيك.”
:الفصل الخامس
مرّ أسبوع على الحادثة.
ميسم استردت عافيتها، لكن ملامحها صارت أهدأ… وكأنها تركت جزء من تعبها في ذلك السرير الأبيض بالمشفى.
عمر زارها آخر مرة قبل خروجها، وجلسا معًا على مقعد خشبي قديم في باحة تطلّ على البحر.
نظر إليها وسألها بهدوء:
“حاسّة إنك رجعتي زي ما كنتِ؟”
ميسم هزّت رأسها وقالت:
“لا… بس حاسّة إني فهمت أكتر.”
قال بابتسامة خفيفة:
“أنا كمان تغيّرت.”
كانت يافا هادئة في ذاك المساء.
الشارع فارغ، والميناء يتنفس ببطء، والبحر يلمع كمرآة.
قالت له ميسم:
“كنت أفكر إنك موجة… بس صرت رصيف.”
ضحك وسأل:
“يعني شو؟”
قالت:
“يعني ثابت. ما بخوّف. ما بصدّ. حتى لما أختفي، بلاقيك.”
سكت لحظة، ثم قال بهدوء:
“صداقتنا صارت متل الحياة والفكرة…
ما بزبط تعيش وحدة فيهم بدون الثانية.”
ميسم ابتسمت بإقرار، ومدّت يدها:
“وعد؟”
صافحها عمر بقوة خفيفة وعيونه ثابتة:
“وعد…”
⸻
تركها تمشي وحدها… مش لأنه ابتعد،
لكن لأنه صار يعرف الطريق اللي بتجمعهم، حتى لو مشوا لحالهم.
⸻
النهاية
حين مشت الفكرة بجانب الحياة… لم يحترق أحد، ولم يختفِ أحد،
بل وُلد شيء اسمه “الطمأنينة”.
Published: Jun 23, 2025
Latest Revision: Jun 23, 2025
Ourboox Unique Identifier: OB-1677216
Copyright © 2025