في المدرسة الجديدة by manar&hadeer  - Ourboox.com
This free e-book was created with
Ourboox.com

Create your own amazing e-book!
It's simple and free.

Start now

في المدرسة الجديدة

  • Joined May 2018
  • Published Books 2

ليتني أستطيع، وأنا أكتب الآن عن ذلك الصبيّ القادم مِن سَفْح “صنّين”، أن أسترجع صورته ساعة انفتحت له ثمّ انغلقت خلفه لأوّل مرّة بوابة “المَسْكوبيّة”
في الناصرة. ليتني أستطيع أن أراه يدرُج في فِناء تلك المدرسة، وفي يده حقيبته الصغيرة البالية، ثمّ أن أصوّرَ جميع الانفعالات والأفكار التي كانت تزدحم على
رُقْعة وجهه السمراء، وفي مُقلتَيْه الحالمتَيْن

2

لقد كان يمشي بخطوات ثابتة، مُحاوِلاً أن يُخفي ما به من وَحشة ودهشة عن العيون الكثيرة التي أخذت ترمُقُه من كلِّ صَوْب. ولكنّه ما كان يدري إلى أين يتّجه
لو لم يتداركْهُ الحاجب الذي فتح له الباب، ثمّ اقتاده إلى مكتب الرئيس في الطابق الثاني من البناية.

   أنت ميخائيل نعيمة؟

   نعم.

   وهل لديك دراهم؟

   نعم.

   هاتِها لأحفظها لك في خزانة المدرسة، ولك أن تسحب منها قدر
ما تشاء، ساعة تشاء

3

ذلك الضباب الذي اكتنفني عندما وصلتُ إلى الناصرة، أخذ يتبدَّد ساعةً بعد
ساعة ويومًا بعد يوم. ففي خلال أسبوع عرفتُ أنّ منهاج المدرسة يمتدُّ لِستّ
سنوات مقسَّمة على ثلاثة صفوف لكلّ صفّ سنتان. وعرفت أنّ عدد الطلاّب
فيها لا يكاد يتجاوز الأربعين؛ نصفهم في الصفّ الأوّل الذي هو صفّي. وعرفتُ
أنّهم خليط من مدن فلسطين وسوريا ولبنان، وقُراها. ولم يطُلْ بي المُقامُ حتّى
حفظتُ أسماء جميع المعلّمين، الذين كان بعضهم من الروس، وبعضهم من
العرب، وأسماء جميع الطلاّب

4

لقد كنتُ أعرف أنّ ذلك سيحصل بالتدريج، وأنّ شعوري بالغربة لن يطول
مَداه. والذي كنت أخشاهُ هو أن أجِدَني متأخِّرًا عن رفاقي في فرع أو أكثر
من الفروع. وقد صحّ ظنّي عندما دخلتُ حصّة اللغة الروسيّة فوجدتُ أنّ
المعلّمَ روسيٌّ لا يفقَهُ كلمة واحدة من العربيّة. وسمعت بعض رفاقي يخاطبونه بالروسيّة، فيفهم ما يقولون، ويفهمون ما يقول، في حين أنّ بضاعتي من الروسي
ما كانت تتعدّى المئة من المُفْرَدات، وأنّ لساني كان يتعثّر كثيرًا حتّى في قراءتها

5

خرجتُ من الصفّ شاكرًا ربّي، لأنّ المعلّم لم يتوجّه إليَّ بسؤال، ولكنّني
شعرتُ بغمامة كثيفة رهيبة سوداء تلفُّني، وتضغط عليَّ، ولم يُجْدِني في التخلّص
منها أنْ أخاطب نفسي: “قوِّ قلبَك يا ميخائيل، لا تجبُن. كنتَ الأوّل في “بَسْكِنْتا”،
ولن تكون الأخيرَ في الناصرة. أنت في بداية الشَّوْط، ولا بأس إذا تخطّاك غيرُك، المهمّ أن تَثبُت حتّى نهاية الشوط، وستَثبُت، ولن تكون إلاّ في الطليعة، وذلك ما
يتوقّعه منك والداك”

6

لا لم يُجْدِني شيءٌ من ذلك في تبديد تلك الغمامة الرهيبة، وأجْداني أنْ تلا
درسَ اللغة الروسيّة درسٌ في اللغة العربيّة. وكان المدرّس رجلاً في العقد الرابع
من عمره، مديدَ القامة، طويل الشاربَيْن، رصين الحركات

7

ما إنْ دخل معلّمُنا الصفّ حتّى دفع إلينا بنسخة غير مَشْكولة من “كَليلة
وَدِمْنة”، وراح يطلب إلى كلٍّ منّا أن يقرأ فيها مقاطع هنا وهناك، وأن يقرأها
مع الحركات. وفي الحال زال قلقي إذ تبَيَّنتُ الهَفَوات الكثيرة التي كان يرتكبها
العدد الأكبر من رفاقي. وعندما جاء دَوْري قرأتُ بصوت مُطمئنّ وبدون خطأ.
فكانت تلك القراءة النسمة المباركة التي بدَّدت الغيمة الرهيبة من عينيّ وقلبي –
ولو إلى حين.

8
This free e-book was created with
Ourboox.com

Create your own amazing e-book!
It's simple and free.

Start now

Ad Remove Ads [X]
Skip to content