لكلِّ مثل من الأمثال العربية قصَّة روتها العرب، وصارت مثلا تتداوله الأجيال، حيث يغيب أصل القصَّة، التي لأجلها وضع المثل، ومن هذه الأمثال التي اشتهرت بين العرب، ولها قصَّة مشهورة في تاريخهم هي: “وافق شنٌّ طبقة”.
وقال الأصمعي في تفسيره: إن الشَّنَّ في اللغة: هو الإِناء مِنَ الجلدِ، قد خَلِقَ وبَلِي، (وقد يكون عَلمًا)، فصُنِعَ له غطاء خَلِقٌ من جنسه، فوافق الشنُّ الطبقة التي عليه.
وطبقة: الطبقة في اللغة: غِطَاء كل شيء، وتُجْمع على أطباق، وقد يُراد بالطَّبق الجماعة من الناس، وبَنات الطَّبق الدَّواهي، وقيل: أصلها الحيَّة.

. “وافق شن طبقة” هو مثل أطلقه قدماء العرب وظلَّ شائعا حتى وقتنا الحاضر. كثيرا ما يقال “وافق شنٌّ طبقة”، في إشارة إلى تشابه وتماثُل شخصين يلتقيان ويتوافقان تمامًا في الرَّأي والتفكير، (يقال هذا المثل دائمًا عند اتّفاق العقلاء، وحدوث الوفاق والتفاهم والانْسِجام في الأفكار بين المتحابين والمتزوجين). فما قصَّة هذا المثل؟ ومتى يُسْتَخْدَمُ؟ وَمَنْ هو شنٌّ؟ ومَنْ هي طبقة؟

قصَّة المثل “وافق شنٌ طبقة”: ولهذا للمثل قصّة شهيرة وقعتْ مع رجل من دُهاة وحُكَماء العرب وعقلائهم يُقالُ له (شَنٌّ)، عُرِفَ بينَ النَّاسِ برجاحَةِ العَقْلِ وَصَوابِ الحِكْمَةِ، فكانوا يستشيرونه في أمورهم ويعملون بما يُسْدِيهِ إِليهم مِنَ النُّصْحِ والرَّأي.
وَحَدَثَ أنْ أرادَ شَنٌّ أنْ يكونَ له شريكَة حياة لها من رجاحة العقل ما له، ومن حُسْنِ التفكير ما يتَّصِفُ به هو، فأخذَ يبحَثُ عن طَلْبَتِهِ في موطنه، فلمْ يهْتَدِ إلى ما يُريدُ؛ فعزَمَ على أنْ يطُوفَ في الأرْضِ باحِثًا عن زَوْجَةٍ تُجاريهِ في الذكاء والدَّهاء.

وفي طريقه تعرَّف على رجل، فسأله شنٌّ عن وجهته؟ فذكَرَ له الرجل: إنَّه من ذات البَلْدَةَ التي يَسْعَى إليها. فقالَ لهُ شَنٌّ: وإِنِّي لقاصِدُها، ثُمَّ اتَّفقا على الصُّحْبَةِ، وسارا معًا إلى وجهتهما، وَنَظَرَ شَنٌّ إلى صاحِبِهِ وقال له: أتحملني أم أحملك؟ فقال له الرجل: يا لكَ مِنْ جاهل! أنا راكب دابَّتي وأنت راكبٌ كذلك، فَلِمَ يَحْمِلُ الواحِدُ مِنَّ الآخَرَ؟ فسكتَ عنه شنٌّ ولم يُفَسِّرْ مَقْصَدَهُ..
وتابعا سيرهما حتى إذا قربا من القرية المقصودة، إذا بزرع قد حانَ وَقْتُ حَصادِهِ ، فسَأَلَ شنٌّ صاحِبَهُ: أترى، هذا الزرع قد أكِلَ أم لا؟ فقال له الرجل: عَجَبًا لكَ ما أَجْهَلَكَ! ترى الزَّرْعَ أمامك يُوشِكُ أنْ يُحْصَدَ فَتَسْأَلَ: أكِلَ أم لا؟ فَلَزِمَ شَنٌّ الصَّمْتَ، ولم يرد على كلام الرجل، وَمَضَى الرَّجُلانِ في طريقهما.

ولمَّا وَصَلا البَلْدَةَ وَدَخَلا إليها، وجدا أمامهما جنازة، فقال شنٌّ لرفيقه: أترى صاحب هذا النعش حيًّا أم ميتًّا؟ فتعجَّب الرَّجُلُ لجَهْلِ صاحِبِهِ كلَّ العَجَبِ! وقالَ: لقد ضقت بك ذرعًا، ما رَأَيْتُ أَجْهَلَ منكَ! ترى جنازته وتسأل أَحَيٌّ صاحبها أم ميِّت؟ فسكت شَنٌّ عن جوابه.

عزمَ (شنٌّ) على أَنْ يفارقَ رَفِيقَ دَرْبِهِ، غير أَنَّ الرجلَ أَبى أَنْ يتركه حتى يستضيفه في بيته للغذاء؛ فمضى شنٌّ معه. وفَورَ وُصُولِهِما دخل الرجل إلى مكان النساء في البيت، فوجد ابنته وَتُدْعى (طبقة) تُعِـدُّ الطعام،) فسألتْ أباها عن ضيفه فقال لها: “ضيفنا جاهِلٌ ويسأل أسئلة لا معنى لها”، وحكى لها ما كان من أمره.
فقالت الفتاة لأبيها: يا أَبَتِ ما هذا الرَّجُلُ بجاهل، فأمَّا قولهُ: “أتحملني أم أحملك” معناه أتحدثني أم أحدثك حتَّى نقطَعَ طريقنا، ولا نشعر بطول المسافة، وننسى تعب السفر”..
وأمَّا قوله عن الزرع إنْ كان قد أُكِلَ أم لم يؤكلْ، يقصدُ بذلك إنْ كان أصحابه باعوه وأكلوا ثمنه أم لم يبيعوه بعد..؟
وأمّا سؤاله أَحِيٌّ صاحِبُ هذا النَّعْش أَم ميِّت؟ فهو يسأل عن ذرِّيته، ويَقْصِدُ هل تَرَكَ هذا المَيِّتُ وَلدًا يُحْيي ذِكْرَهُ بينَ النَّاسِ أم لا؟

ولما فَطِنَ الرَّجلُ لمقْصَدِ شنّ، خرج لِيَجْلِسَ مع ضيفه وقعد معه وتحادثا زمنًا، وكان ممَّا قاله الرجل لِ (شنٍّ ): أتودُّ أَنْ أُفسِّرَ لك ما سألتني عنه في الطريق؟ قال: حبَّـذا إِنْ فعلتَ.
فأخذ الرجل يُفَسِّرُ له ويجيبُ عن أَسْئِلَتِهِ، فقال له شنٌّ: ” ما أَحْسَبُ أَنَّ هذا كلامك، فهلا اخبرتني عن صاحبه؟ فقال له الرَّجلُ: إِنَّها ابنتي طبقة؛ فلما سمع شنٌّ بها، أُعْجِبَ بها وبذكائها ورجاحة عقلها، ووجد فيها ضالته؛ فخطبها إِلى أبيها فزوَّجَهُ إِيَّاها.

وعاد شنٌّ إلى أَهله ومعه زوجته، فلمَّا رأوا ماهي عليه من الذكاء والفطنة والدَّهاء قالوا: (وافق شنٌّ طبقة )؛ فذهب قولهم مثلًا.. ويوازيه بالعامية قولنا “طنجرة ولقتْ غطاها”. وباتت العرب منذ ذلك اليوم تقول: “وافق شنٌّ طبقة”.
وقَدْ تمثَّل بهذا المثل الشُّعراءُ في شِعْرهم، ومن ذلك قولُ بعضهم:
وَكَأَنِّي مِنْ غَدٍ وَافَقْتُها مِثْلَمَا وَافَقَ شَنٌّ طَبَقَا

معاني الكلمات:
ــ حَيْثِيَّة: اعْتِبا، سَبَب، مناسبة.
ــ اَسْدَى: قَدَّمَ، أَعْطَى.
ــ طَلْبَته: حَقَّهُ، مُرادَهُ.
ــ عَزَمَ على الأمر: أرادَ فِعْلَهُ وَعَقَدَ عليه العَزْمُ.
ــ طافَ: جالَ، دارَ.
ــ تُجاريهِ: تُشابِهُهُ، تُماثِلُهُ.
ــ مَقْصَدٌ: هَدَفٌ، غايَةٌ.
ــ ضِقْتُ بِكَ ذَرْعًا: ضَجِرْتُ مِنْكَ، تَعِبْتُ.
ــ فَطِنَ: أَدْرَكَ، فَهِمَ، عَرَفَ.
ــ حَبَّـذا: أًسلوبٌ للمـدحِ مُركَّبٌ مِنْ حَبَّ (فعل ماض جامـد)، وذا (اسـم إشارة فاعــل
له)، وهو يلزَمُ هذه الصورة في كُلِّ حال.
ــ هَـلَّا: كلمة مُركَّبة من (هَلْ +لا) تكون لِلَّوْمِ عندَ دخُولها على الفعل الماضي؛ فَتَدُلُّ
على اللَّوْمِ لِتَرْكِ فِعْلِ عَمَلٍ ما، هَلَّا اجْتَهَدْتَ، هَلَّا سَعَيْتَ لِفِعْلِ الخَيْرِ.

شاهدوا قصة المثل وافق شـن طبقة بالفيديو التالي
Published: Nov 4, 2020
Latest Revision: Nov 4, 2020
Ourboox Unique Identifier: OB-928471
Copyright © 2020